Monday, July 23, 2007

أتاتورك .. الميّت الذي لا يزال يحكم تركيا

ستظل أسطورة الزعيم التركي الراحل مصطفى كمال أتاتورك مثار جدل لن ينتهي بين فريقين:يرى الأول فيه أنه لم يكن إلاّ مجرد خائن وعميل أهدى الغرب هدية لم تكن تخطر لهم على بال، ولم يكن بمقدورهم تحقيقها بهذه السهولة، على الرغم من كل ما بذلوه في هذا الاتجاه؛ ألا وهي إلغاء الخلافة الإسلامية في السابع والعشرين من رجب 1342هـ الموافق 3 مارس 1924م بعد جهود استغرقت (220) عاماً بحسب المؤرخ الفرنسي (دين جروسية) في كتابه (وجه آسيا) الذي أورد فيه "أن عملية تصفية الخلافة العثمانية استغرقت (220) عاماً بدأت بمعاهدة "كارلو فجة" سنة (1111هـ -1699م) تضافرت فيها جهود الدول الكبرى عبر السنين الطوال". لا تزال هذه الخلافة التي عبرت جيوشها البحر من الأناضول إلى جنوبي شرق ووسط أوروبا، وفتحت بلاد اليونان وبلغاريا ورومانيا ويوغسلافيا والمجر ورودوس وكريت وقبرص وألبانيا، حتى وصلت مشارف فينا عاصمة النمسا، وجنوبي إيطاليا فكانت بذلك أول دولة إسلامية تصل إلى هذا العمق من الأراضي الأوروبية(مصطفى عاشور، إلغاء الخلافة وانفراط عقد المسلمين، إسلام أون لاين). بينما يرى الفريق الآخر أن مصطفى كمال كان زعيماً وطنياً وبطلاً قومياً للأمة التركية، ومحررها من الاستعمار، والاستعباد، وباني تركيا الحديثة، ورائد نهضتها ومنقذها من الهلاك والاضمحلال بين الأمم، بل ومحييها بعد الموت حتى ليقول أحدهم: "إن أتاتورك أعظم رجل أنجبته الأمة التركية في القرون الأخيرة". وإنه الرجل العصامي العظيم الذي استطاع أن يجعل من أمة ضعيفة الجانب، مهيضة الجناح، منهكة القوى تعبة، تنوء بأثقال الهزيمة ونير العبودية- أمة قوية صاعدة عزيزة، وإنه لمنقذ وطن، وإنه لمصلح أمة، وسيظل اسمه مصدر اعتزاز وفخر لكل تركي(عزيز خانكي، ترك وأتاتورك، جريدة الأهرام، 9/11/1938). وبالنظر إلى دعاوى الفريقين ومناقشتها سنجد دافع كل فريق فيما ذهب إليه، وبالوقوف أمام تفاصيل حياة أتاتورك وأعماله التي قام بها والتي لا تزال حتى اليوم ثوابت مقدسة لا يجوز المساس بها بل هو صنم يُعبد في زمن حُطّمت فيها أصنام وتماثيل لكثير من طواغيت البشرية في القرن العشرين. فأتاتورك الذي أسس تركيا الحديثة في عام 1923م، وظل رئيساً لها حتى وفاته في عام 1938م عمل منذ تقلّده الرئاسة بهدف التحول السريع لتركيا من دولة إسلامية وعاصمة للخلافة إلى دول علمانية حديثة على النمط الغربي؛ لاعتقاده أن الإسلام سبب تخلف بلاده، وأن العلمانية هي العصا السحرية التي ستجعل تركيا دولة أوروبية حديثة. ولتحقيق هذا الهدف كان لابد من سلخ جلد تركيا الإسلامي وإلباسها جلداً غربياً بعلمنتها، فشرع بجملة من القرارات التي ابتدأت بإلغاء وزارة الأوقاف، مروراً بإلغاء التعليم الديني، وتغيير كتابة اللغة التركية بالحرف اللاتيني، ورفع الأذان باللغة التركية، وإغلاق المساجد، ووقف بناء الجديد منها، وتحويل العديد منها إلى منتزهات ومتاحف، والكثير الكثير من الأعمال التي غدت علامات استفهام حول غرابة أطوار هذه الشخصية. غموض البداية من الملاحظ لدى كثير من الدارسين والباحثين لشخصية كمال أتاتورك هو ذلك الغموض الشديد الذي يلف بدايات حياته المبكرة، لدرجة أن ذهب الكثير منهم وعلى رأسهم المؤرخ والباحث الإنجليزي (ارمسترونج) صاحب الكتاب الشهير حول أتاتورك "الذئب الأغبر" إلى التشكيك بنسب أتاتورك، والقول بأنه ذو جذور يهودية بانتمائه إلى طائفة يهود الدونمة التي استقرت في مدينة سالونيك التركية بعد تهجيرها من أسبانيا إبان محاكم التفتيش الشهيرة، والتي ادّعت اعتناقها للإسلام بهدف التغلغل والترقي في الوظائف في بلاط الباب العالي، وبالتالي تسهيل مهماتهم في القضاء على الخلافة الإسلامية العثمانية التي تقف حجر عثرة أمام إقامة مشروع الدولة الصهيونية على أرض فلسطين. وعلى الرغم من كثرة الشكوك حول أصله ونسبه إلاّ أن تاريخ مولده يتفق الجميع على أنه كان في عام 1299هـ الموافق 1880م في مدينة سالونيك التي كانت خاضعة لسيطرة الدولة العثمانية، وأبوه وهو علي رضا أفندي قيل إنه كان يعمل حارساً في الجمرك، ومن جملة الشكوك الكثيرة في نسب مصطفى أتاتورك القول بأن مصطفى هو ابن غير شرعي لأب صربي، أما لقبه كمال الذي أُلحق باسمه فقد أطلقه عليه أستاذه للرياضيات في المدرسة، أما لقب أتاتورك والذي يعني أبو الأتراك فقد أُطلق عليه فيما بعد تكريماً له على ما أنجزه للأمة التركية. التحق "أتاتورك" بالكلية العسكرية، وعُين بعد تخرجه ضابطاً في الجيش الثالث في سالونيك، واشتهر بعد نشوب الحرب العالمية الأولى حين عُيّن قائداً للفرقة التاسعة عشرة التي دبلج لها البريطانيون نصراً كبيراً عليهم مرتين في معارك شبه جزيرة غاليبولي ومضيق الدردنيل، على الرغم من السمعة الأسطورية العسكرية للجيش البريطاني حينذاك. وبعد هذا النصر المزيف رُقّي مصطفى كمال إلى رتبة عقيد فعميد كما كان يخطط له البريطانيون؛ ليتسنى له تنفيذ المشروع اليهودي البريطاني المرسوم بالقضاء على الخلافة، وتسهيل مهمة الهجرة اليهودية إلى فلسطين قبل إعلان قيام الدولة الصهيونية. صناعة زعيم بعد هذه الانتصارات التي أحرزها مصطفى كمال على البريطانيين وترقيته إلى رتبة عميد أتى دور الإعلام الذي جعل منها قضية القضايا وحديث الدنيا، جاعلاً من مصطفى كمال بطل الإبطال وأسد المعارك والأدغال، مدغدغين بذلك مشاعر المخدوعين بأسطورية هذا القائد العظيم، مما جعل السلطان محمد الخامس يعهد إليه بالقيام بالثورة في الأناضول حيث غادر مصطفى كمال اسطنبول في مايو 1919م متجهاً إليها بعد تجميعه لفلول الجيش العثماني المنهزم فيها، وقد احتج حينها الحلفاء لدى السلطان الذي أصدر أوامره بعزله، فرفض مصطفى كمال أمر العزل باعثاً برسالة إلى الخليفة يقول فيها: "سأبقى في الأناضول إلى أن يتحقق استقلال البلاد". بدأ حينها مصطفى كمال بإشعال ثورته التي يديرها الإنجليز، وانضم إليه عدد من رجال الفكر والسياسة وشباب القادة للقتال من أجل تحرير أراضيهم المحتلة من قبل الحلفاء واليونانيين. استمر القتال عاماً ونصف ضد اليونانيين، بينما أعلن الحلفاء حيادهم في هذه الحرب التي رفع فيها مصطفى كمال شعار الإسلام والمصحف في هذه الثورة التي خطط لها الإنجليز، وعملوا على إنجاحها، وبتجدد القتال بين الأتراك واليونانيين في 1921م انسحب اليونانيون من أزمير فدخلها أتاتورك دون طلقة واحدة، كما رسم المخرج البريطاني لها لتكون بذلك الحلقة الأخيرة في سلسلة صناعة الزعيم الملهم؛ إذ بدأ الإعلام الغربي بتضخيم هذه الانتصارات المزعومة لمصطفى كمال. وبعد كل هذه الانتصارات عاد مصطفى كمال إلى أنقرة، وخلع عليه المجلس الوطني رتبة "غازي" والتي تعني الظافر في حرب مقدسة، وهو لقب كان ينفرد به كبار سلاطين آل عثمان، وبهذا تعزز موقفه الدولي والشعبي، فوردت عليه برقيات التهاني من كل أقطار العالم الإسلامي لهذا الانتصار العظيم لثورة الدفاع عن الخلافة الإسلامية التي خدع بها مصطفى كمال العالم الإسلامي كثيراً. وفي خضم هذا الزخم الذي أُحيط بشخصية مصطفى كمال انتخبته الجمعية الوطنية الكبرى رئيساً شرعياً للحكومة ليبدأ الذئب الأغبر بتنفيذ السيناريو الذي أُعدّ من أجله، فبدأ مصطفى كمال على الفور بإرسال مبعوثه "عصمت باشا" إلى بريطانيا في 1340هـ الموافق 1921م لمفاوضة الإنجليز حول استقلال تركيا وفقاً للشروط التي وضعها حينها وزير الخارجية البريطاني اللورد كيرزون، والتي تنص على أن تقطع تركيا صلتها بالعالم الإسلامي، وأن تلغي الخلافة الإسلامية وأن تتعهد تركيا بإخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخلافة، وأن تختار تركيا لها دستوراً مدنياً بدلاً من الدستور العثماني المستمدة أحكامه من الشريعة الإسلامية، فكانت هذه الشروط بمثابة الدستور الكمالي الذي يحكم تركيا حتى اليوم، والدستور الوحيد في عالم اليوم الذي تنص أولى مواده على عدم جواز تعديل أو تفسير مواد الدستور هذه على وجه يخالف ما أُريد منها. حقائق للتأريخ المتأمل في سيرة هذا الزعيم التركي سيلاحظ بلا شك ذلك التناقض الفاضح الذي كان يعيشه أتاتورك في حياته، فتجد الرجل الذي كان يدعو إلى دمقرطة تركيا مكث على سدة الحكم خمسة عشر عاماً يدير حكومة من حزب واحد أوحد في تركيا التي كان يُفترض بها أن تعلن مبدأ الديمقراطية والتعددية السياسية الذي يقتضي التبادل السلمي لسلطة. أي أن تركيا لم تتبنّ النظام الديمقراطي إلاّ في عام 1945م تحت ضغط المجتمعات الغربية، فتمت أول انتخابات برلمانية في عام 1951م، والتي خسر فيها حزب أتاتورك خسارة كبيرة أمام حزب العدالة الوطني بزعامة عدنان مندريس الذي أُعدم بعد عام من توليه الحكم؛ لأنه تجرّأ على إلغاء فقرة من الدستور الكمالي بخصوص رفع الأذان باللغة العربية. لا يوجد زعيم على امتداد التأريخ البشري الطويل حصل أن تخلّى عن جزء من سلطته أو جزء من بلده لعدوه ليصبح بذلك الزعيم الملهم والقائد الأوحد إلاّ في الحالة التركية فقط مع أتاتورك الذي فكك أكبر إمبراطورية إسلامية تمتد على رقعة جغرافية كبيرة من آسيا وأوروبا وإفريقية. ثم إن هذا الزعيم خاض حرباً لا هوادة فيها ضد قيم وتقاليد المجتمع التركي، مما أوجد حالة من عدم الاستقرار والصراع النفسي الداخلي في المجتمع التركي بين هويته الإسلامية والعلمنة الكمالية التي كانت نتيجة طبيعية في عودة الشعب التركي إلى تصفية حساباته مع مصطفى كمال أتاتورك من خلال صناديق الانتخابات التي أدّت إلى صعود حزب العدالة الإسلامي إلى سدة الحكم اليوم بعد سبعين سنة من التيه الفكري الذي عاشته الأمة التركية.المصدر الإسلام اليوم